فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لكن أي شيء أبصروه؟ وأي شيء سمعوه في قولهم {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا} [السجدة: 12]؟ أول شيء يبصره الكافر يوم القيامة {وَوَجَدَ الله عندَهُ} [النور: 39] وحده سبحانه ليس معه شريك من الشركاء الذين عبدوهم في الدنيا، وليس لهم من دونه سبحانه وليٌّ، ولا شفيع، ولا نصير.
ومعنى {وَسَمعْنَا} [السجدة: 12] أي: ما أنزلته يا رب على رسولك، ونشهد أنه الحق وصدَّقنا الرسول في البلاغ عنك، وأنه ليس مُفْتريًا، ولا هو شاعر، ولا هو ساحر، ولا هو كذاب.
لكن، ما فائدة هذا الاعتراف الآن؟ وبماذا ينفعهم وهو في دار الحساب؟ لا في دار العمل والتكليف؟! وما أشبه هذا الاعتراف باعتراف فرعون قبل أنْ يغرق: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إلاَّ الذي آمَنَتْ به بنوا إسْرَائيلَ} [يونس: 90] لذلك ردَّ الله عليه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ منَ المفسدين} [يونس: 91].
فقولهم: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا} [السجدة: 12] إقرار منهم بأنهم كانوا على خطأ، وأنهم يرغبون في الرجوع إلى الصواب، كما قال سبحانه في موضع آخر: {حتى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالحًا فيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99-100]، وردَّ الله عليه: {كَلاَّ إنَّهَا كَلمَةٌ هُوَ قَآئلُهَا} [المؤمنون: 100].
ثم كشف حقيقة أمرهم: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنَّهُمْ لَكَاذبُونَ} [الأنعام: 28].
وهنا يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالحًا إنَّا مُوقنُونَ} [السجدة: 12] وهل يكون اليقين في هذا الموقف؟ اليقين إنما يكون بالأمر الغيبي، وأنتم الآن في اليقين الحسيّ المشَاهدَ، فهو إذن يقين لا يُجدى.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شئْنَا لآتَيْنَا}.
هنا قد يسأل سائل: لماذا جعل الله الناسَ: مؤمنًا وكافرًا، وطائعًا وعاصيًا؟ لماذا لم يجعلنا جميعًا مهتدين طائعين؟ أهذا صعب على الله سبحانه؟ لا، ليس صعبًا على الله تعالى، بدليل أنه خلق الملائكة طائعين مُنفّذين لأوامره سبحانه: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
كذلك الأرض والسماء والجبال. الخ، كلها تُسبّح الله وتعبده {كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبيحَهُ} [النور: 41].
وقال: {وَإن مّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبّحُ بحَمْده ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وبعد ذلك يعطي الله تعالى لبعض خَلْقه معرفة هذا التسبيح، كما قال في حق داود عليه السلام: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبّحْنَ} [الأنبياء: 79].
نعم، هي تُسبّح أيضًا مع غير داود، لكن الميزة أنها تشترك معه في تسبيح واحد، كأنهم كورس يرددون نشيدًا واحدًا.
وعرفنا في قصة الهدهد وسليمان- عليه السلام- أنه كان يعرف قضية التوحيد على أتمَّ وجه، كأحسن الناس إيمانًا بالله، وهو الذي قال عن بلقيس ملكة سبأ: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْس من دُون الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَن السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 24].
وقال: {أَلاَّ يَسْجُدُوا للَّه الذي يُخْرجُ الخبء في السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ} [النمل: 25].
والحق سبحانه وتعالى- حينما يريد أنْ يُدلّل لخَلْقه على قدرته يجعل من الضعف قوة، ومن القوة ضعفًا، وانظر إلى حال المؤمنين الأوائل، وكم كانوا أذلة مستضعفين، فلما أسلموا رفعهم الله بالإسلام وجعلهم سادة.
ومشهورة قصة الصّدّيق أبي بكر لما أَدخل عليه المستضعفين أمثال: عمار وبلال. وترك صناديد قريش بالباب، فعاتبه أبوه على ذلك: كيف يُدخل العبيد ويترك هؤلاء السادة بالباب؟ فقال أبو بكر: يا أبي، لقد رفع الإسلام الخسيسة، وإذا كان هؤلاء قد ورمتْ أنوفهم أن يدخل العبيد قبلهم، فكيف بهم حين يُدخلهم اللهُ الجنةَ قبلهم؟
وعجيب أن يصدر هذا الكرم من الصّدّيق أبي بكر، مع ما عُرف عنه من اللين ورقَّة القلب والحلم.
وهذا لون من تبديل الأحوال واجتماع الأضداد، وقد عرض الحق- تبارك وتعالى- لهذه المسألة في قوله تعالى: {إنَّ الذين أَجْرَمُوا كَانُوا منَ الذين آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإذَا مَرُّوا بهمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29-30] يعني: يسخرون منهم ويهزأون بهم، كما نسمع من أهل الباطل يقولون للإنسان المستقيم خدنا على جناحك.
وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد، إنما إذا عادوا إلى أهلهم كرروا هذا الاستهزاء، وتبجحوا به، وفرحوا لإيذائهم لأهل التقوى والاستقامة: {وَإذَا انقلبوا إلى أَهْلهمُ انقلبوا فَكهينَ وَإذَا رَأَوْهُمْ قالوا إنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسلُوا عَلَيْهمْ حَافظينَ} [المطففين: 31-33] لكن يُنهي الحق سبحانه هذا الموقف بقوله: {فاليوم الذين آمَنُوا منَ الكفار يَضْحَكُونَ} ثم يسألهم الله {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
[المطففين: 34-36].
فهنا يقول الحق سبحانه: لا تفهموا أن أحدًا تأبى عليَّ، من خَلْقي، إنما أردتُ لهم الاختيار، ثم أخبرتهم بما أحبّ أنْ يفعلوه، فيريد الله أن يعلم علم وقوع بمَنْ آمن به، وهو يملك ألاَّ يؤمن. وإلا فهو سبحانه عالم أزلًا؛ ليكون الفعل حجة على أصحابه، إذن: إياك أنْ تظنَّ أنك باختيارك كسرت قهر العلى.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الذين أَلفوا التمرد على الله إيمانًا به، فكفروا وتمردوا على طاعته فعصوه. الخ نقول لهم: ما دُمْتم قد تعودتم التمرد على أوامر الله، فلماذا لا تتمردون على المرض مثلًا أو على الموت؟ إذن: أنت عبد رغم أنفك.
يقول سبحانه هنا: {وَلَوْ شئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] أي: لَجعل الناس كالملائكة، وكالمخلوقات المسيَّرة التي لا اختيار لها، وسبق أنْ قُلْنا: إن المخلوقات كلها خُيّرت في حمل الأمانة، وليس الإنسان وحده، لكن الفرق أن ابن آدم أخذ الاختيار مُفصَّلًا، وبقية الخَلْق أخذوا الاختيار جملة، بدليل قوله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْملْنَهَا وَأَشْفَقْنَ منْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
ومعنى الهداية في {وَلَوْ شئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] أي: هدى المعونة، وإلا فقد هدى اللهُ جميعَ الناس هُدى الدلالة على طريق الخير، فالذي اخذ بهدى الدلالة وقال على العين والرأس يأخذ هدى المعونة، كما قال سبحانه: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
ولكي نفهم الفرق بين الهديين، اقرأ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] أي: دللناهم وأرشدناهم {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17].
ثم يقول سبحانه: {ولكن حَقَّ القول منّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الجنة والناس أَجْمَعينَ} [السجدة: 13].
الحق سبحانه يريد أنْ يثبت لخَلْقه أنه هو الأَوْلَى بالحكمة في الخَلْق، بدليل أن الذي يشذ عن مراد الله لابد أن يفسد به المجتمع، كما نرى المجتمعات تشقى بكفر الكافر، وبعصيان العاصي.
والحق سبحانه يترك الكافر يكفر باختياره، والعاصي يعصي باختياره ليؤذي الناس بإثم الكافر وبإثم العاصي، وعندها يعودون إلى تشريع الله ويلجئون إلى ساحته سبحانه، ولو أن الناس عملوا بشرع الله ما حدث فساد في الكون ولا خَلَلٌ في حياتهم أبدًا.
لذلك نفرح حينما ينتقم الله من أهل الكفر ومن أهل المعصية، ونقول: الحمد لله الذي أراح منهم البلاد والعباد.
إذن: مخالفة منهج الله في القمة كفرًا به سبحانه، وفي غيرها معصية لأمره هو الذي يبين مزايا الإيمان وحلاوة التشريع. وقلنا: إن التشريع يجب أنْ يأخذه المكلَّف أَخْذًا أَخْذًا كاملًا بما له وبما عليه، فالله كلَّفك ألاَّ تسرق من الناس، وكلَّف الناسَ جميعًا ألاَّ يسرقوا منك.
ومعنى {ولكن حَقَّ القول منّي} [السجدة: 13] أي: وقع وثبت وقُطع به، ويأتي هذا المعنى بلفظ سبق، كما في {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلمَتُنَا لعبَادنَا المرسلين}.
[الصافات: 171] وفي قصة نوح عليه السلام: {فاسلك فيهَا من كُلٍّ زَوْجَيْن اثنين وَأَهْلَكَ إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْه القول} [المؤمنون: 27].
وقال تعالى حكاية عن الكفار في حوارهم يوم القيامة: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَآ إنَّا لَذَآئقُونَ} [الصافات: 31].
ومعنى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الجنة والناس أَجْمَعينَ} [السجدة: 13] عرفنا أن الله تعالى خلق الجنة، وخلق لها أهلًا يملأونها، وخلق النار وخلق لها أهلًا يملأونها، فليس فيهما أزمة أماكن، فالجنة أُعدَّتْ لتسع جميع الخَلْق إنْ آمنوا، وكذلك النار أُعدَّتْ لتسع الخَلْق جميعًا إنْ كفروا.
لذلك حين يذهب أهل الجنة إلى الجنة يرثون أماكن أهل النار فيها، كما قال سبحانه: {ونودوا أَن تلْكُمُ الجنة أُورثْتُمُوهَا بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].
والجنَّة: أي الجنّ والعفاريت.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَذُوقُوا بمَا نَسيتُمْ}.
والتقدير: ذوقوا العذاب، كما جاء في آية أخرى {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] ويُقال هذا لزعماء ورءوس الكفر {ذُقْ إنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
واختار حاسة التذوق؛ لأن كل وسيلة إدراك قد تتصل بلون من ألوان الترف في الحياة، أمَّا الذوق فيتصل بإمداد الحياة، وهو الأكل والشرب، وبهما قوام حياة الإنسان، فهما ضرورتان للحياة لا مجردَ ترف فيها.
وفي موضع آخر، يُبيّن لنا الحق سبحانه أثر الإذاقة، فيقول عن القرية التي كفرت بربها: {فَأَذَاقَهَا الله لبَاسَ الجوع والخوف بمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] وتصور أن يكون الجوع لباسًا يستولي على الجسم كله، وكأن الله تعالى يريد أنْ يُبين لنا عضة الجوع، التي لا تقتصر على البطن فحسب، إنما على كل الأعضاء، فقال: {لبَاسَ الجوع} [النحل: 112] لشمول الإذاقة، فكأن كل عضو في الجسم سيذوق ألم الجوع، وهذا المعنى لا يؤديه إلا اللفظ الذي اختاره القرآن.
وقد فطن الشاعر إلى هذه الشمولية التي تستولي على الجسم كله، فقال عن الحب الإلهي حين يستشرف في القلب ويفيض منه ليشمل كلَّ الجوارح، فقال:
خَطَراتُ ذكْركَ تَسْتثير مودَّتي ** فأُحسُّ منها في الفُؤاد دَبيبَا

لا عُضْوَ لي إلاَّ وَفيه صَبَابةٌ ** فَكأنَّ أَعْضَائي خُلقْنَ قُلُوبَا

وعلَّة هذه الإذاقة {بمَا نَسيتُمْ لقَاءَ يَوْمكُمْ هاذآ} [السجدة: 14] أي: يوم القيامة الذي حدَّثناكم عنه، وحذَّرناكم من أهواله، فلم نأخذكم على غرَّة، لكن نبهناكم إلى سوء العاقبة، فلا عذرَ لكم الآن، وقد ضخَّمنا لكم هذه الأهوال، فكان من الواجب أن تلتفتوا إليها، وأنْ تعتبروا بها، وتتأكدوا من صدْقها.
أما المؤمنون فحين يروْنَ هذا الهول وهذا العذاب ينزل بالكفرة والمكذّبين يفرحون؛ لأن الله نجاهم بإيمانهم من هذا العذاب.
وتكون عاقبة نسيان لقاء الله {إنَّا نَسينَاكُمْ} [السجدة: 14] فأنتم نسيتم لقاء الله، ونسيتم توجيهاته، وأغفلتم إنذاره وتحذيره لكم، ونحن تركناكم ليس هملًا، إنما تركناكم من امتداد الرحمة بكم، فقد كانت رحمتي تشملكم في الدنيا، ولم أخصّ بها المؤمنين بي، بل جعلتُها للمؤمن وللكافر.
فكل شيء في الوجود يعطي الإنسان مطلق الإنسان طالما أخذ بالأسباب، لا فرق بين مؤمن وكافر، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فننساكم من هذه الرحمة التي لا تستحقونها، بل: {وَذُوقُوا عَذَابَ الخلد بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14].
فإنْ كنتم قد تمردتم على الله وكفرتم به في دنيا محدودة، وعمرك فيها محدود، فإن العذاب الواقع بكم اليوم خالد باقٍ دائم، فخسارتكم كبيرة، ومصيبتكم فادحة.
وقلنا: إن العمل في الدنيا للآخرة يمثل معادلة ينبغي أنْ تُحلّ حلًا صحيحًا، فأنت في الدنيا عمرك لا يُحسب بعمرها، إنما بمدة بقائك فيها، فهو عمر محدود، أما الآخرة فخلود لا ينتهي، فلو أن النعيم فيهما سواء لكان امتداد الزمن مرجحًا للآخرة.
ثم إن نعيمك في الدنيا على قدر إمكاناتك وحركتك فيها، أما نعيم الآخرة فعلى قدر إمكانات الله في الكون، نعيم الدنيا إما أنْ يفوتك أو تفوته أنت، ونعيم الآخرة باقٍ لا يفوتك أبدًا لأنك مخلد فيه.
إذن: هي صفقة ينبغي أنْ تُحْسبَ حسابًا صحيحًا، وتستحق أن نبيع من أجلها الدنيا بكل ما فيها من غالٍ ونفيس؛ لذلك سماها رسول الله تجارة رابحة.
وقال سبحانه وتعالى عن الكافرين {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبحَتْ تّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدينَ} [البقرة: 16]. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{الم (1) تَنْزيلُ الْكتَاب لَا رَيْبَ فيه منْ رَبّ الْعَالَمينَ (2)}.
هذه السورة مكية، قيل: إلا خمس آيات: {تتجافى} إلى {تكذبون}.
وقال ابن عباس، ومقاتل، والكلبي: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة: {أفمن كان مؤمنًا}.
قال كفار قريش: لم يبعث الله محمدًا إلينا، وإنما الذي جاء به اختلاق منه، فنزلت.
ولما ذكر تعالى، فيما قبلها، دلائل التوحيد من بدء الخلق، وهو الأصل الأول؛ ثم ذكر المعاد والحشر، وهو الأصل الثاني، وختم به السورة، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث، وهو تبيين الرسالة.
و{الكتاب} القرآن.
قال الحوفي: {تنزيل} مبتدأ، {ولا ريب} خبره.
ويجوز أن يكون {تنزيل} خبر مبتدأ، أي هذا المتلو تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل، و{الم} بدل على الحروف.
وقال أبو البقاء: {الم} مبتدأ، و{تنزيل} خبره بمعنى المنزل، و{لا ريب فيه} حال من الكتاب، والعامل فيه تنزيل، و{من رب العالمين} متعلق بتنزيل أيضًا.
ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في فيه، والعامل فيه الظرف.
ويجوز أن يكون {تنزيل} مبتدأ، و{لا ريب فيه} الخبر، و{من رب العالمين} حال كما تقدم.
ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل، لأن المصدر قد أخبر عنه.
ويجوز أن يكون الخبر {من رب العالمين}، و{لا ريب} حال من الكتاب، وأن يكون خبرًا بعد خبر. انتهى.
والذي أختاره أن يكون {تنزيل} مبتدأ، و{لا ريب} اعتراض، و{من رب العالمين} الخبر.
قال ابن عطية: {من رب العالمين} متعلق بتنزيل، ففي الكلام تقديم وتأخير؛ ويجوز أن يتعلق بقوله: {لا ريب}، أي لا شك، من جهة الله تعالى، وإن وقع شك الكفرة، فذلك لا يراعى.
والريب: الشك، وكذا هو في كل القرآن، إلا قوله: {ريب المنون} انتهى.
وإذا كان {تنزيل} خبر مبتدأ محذوف، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه، لم نقل فيه: إن فيه تقديمًا وتأخيرًا، بل لو تأخر لم يكن اعتراضًا.
وأما كونه متعلقًا بلا ريب، فليس بالجيد، لأن نفي الريب عنه مطلقًا هو المقصود، لأن المعنى: لا مدخل للريب فيه، إن تنزيل الله، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه، وهو الإعجاز، فهو أبعد شيء من الريب.